محمد خواجوئي
الخميس 11 أيلول 2025
اختيار القاهرة، كمكان لتوقيع الاتفاق، انطوى على رسالة سياسية خاصّة (أ ف ب)
طهران | طغى مكان توقيع الاتفاق الجديد بين إيران و»الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، في القاهرة التي بادرت إلى استضافة الطرفَين، ورعاية التفاهم بينهما، على الاتفاق نفسه، والذي تقرّرت بموجبه آلية جديدة للتعاون بين الجانبَين، عُرفت باسم «دليل الأسلوب». وحصل الاتفاق بينما وصلت العلاقات بين طهران والوكالة الدولية، في الأشهر الماضية، إلى أدنى مستوياتها، وأيضاً في أعقاب جولات محادثات جرت بين الوفدَين الفنيَّين للطرفَين.
ووقّع الاتفاق عن الجانب الإيراني، وزير الخارجية عباس عراقجي، وعن جانب الوكالة الدولية، مديرها العام رافاييل غروسي، وذلك برعاية وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، وبالتزامن أيضاً مع الاجتماع الدوري لمجلس محافظي الوكالة الذي بدأ أعماله، الإثنين الماضي، في فيينا.
ولا بدّ من الإشارة إلى سياق تدهور العلاقات بين إيران والوكالة، التي مهّد قرارها إدانة طهران، في الـ12 من حزيران الماضي، على خلفية «عدم التزامها» بمندرجات «معاهدة عدم الانتشار النووي»، الطريق أمام اندلاع العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية، في اليوم التالي، الـ13 من حزيران. وعمّق ذلك من غياب ثقة الإيرانيين بالوكالة، والتي، للمناسبة، لم تدلِ بأيّ تصريحات إدانة بعد قصف المنشآت النووية الإيرانية، على رغم مخالفة الفعل نفسه، القوانين الدولية، و»معاهدة عدم الانتشار».
من هنا تحديداً، جاءت مصادقة البرلمان الإيراني على قانون كُلّفت الحكومة بموجبه بوقف تعاونها مع «الذرية»، أي تعليق العمل بالبروتوكول الإضافي، ومنع المفتشين من الوصول إلى المواقع الحيوية. في الموازاة، حذّر غروسي من «نفاد الوقت» أمام المحادثات مع إيران لإحياء عمليات الإشراف والمراقبة، فيما أوصلت الضغوط الدبلوماسية الأوروبية، وإطلاق الترويكا مسار عودة العقوبات الأممية على طهران، الحكومة الإيرانية إلى قناعة مفادها أنه لا بدّ من الحوار مع الوكالة الدولية.
غير أن اختيار القاهرة، كمكان لتوقيع الاتفاق، انطوى على رسالة سياسية خاصّة؛ فمصر، بوصفها بلداً عربيّاً وفي الوقت ذاته عضواً في «معاهدة عدم الانتشار»، يمكن أن تكون جسراً للتواصل بين إيران والمجتمع الدولي، وإبعاد المحادثات عن أجواء التصعيد المباشر بينهما.
ينبغي النظر إلى اتفاق القاهرة باعتباره محاولة لإدارة الأزمة
وعلى الرغم من أن النصّ الكامل للاتفاق لم يُنشر بصورة رسمية، لكن، واستناداً إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين، وبيان الوكالة الدولية، فإنه يتضمّن محاور رئيسية عدّة:
1- صياغة اللوائح والأنظمة العملانية لعودة مفتشي الوكالة إلى بعض المواقع النووية التي توقّف الوصول إليها بعد حزيران.
2- وضع جدول زمني لتركيب كاميرات المراقبة وأنظمة الرصد والمراقبة في المراكز الحسّاسة، بما في ذلك في «نطنز» و»فوردو».
3- إيجاد آلية استشارية مشتركة بين ممثّلي إيران والوكالة الدولية لتسوية الخلافات الفنية، قبل أن تنتقل إلى المستوى السياسي أو مجلس المحافظين.
4- ضمان احترام الاعتبارات الأمنية لإيران؛ بمعنى أنه يجب إعادة تعريف مسارات الوصول ونوع التفتيش في ضوء تجربة الهجمات الأخيرة والهواجس الأمنية لطهران.
5- دور مصر المُسَهّل، بوصفها وسيطاً في حالة الوصول إلى طريق مسدود.
ويُظهر النصّ أن الاتفاق يتّسم بطابع فنّي وتنفيذي، أكثر من كونه اتّفاقاً سياسيّاً شاملاً، في حين يمكن هذه الخطوة الصغيرة، أن تفتح الطريق أمام خفض التصعيد وبدء مباحثات أوسع. وفي حديث إلى التلفزيون الإيراني، أمس، أكّد عراقجي أن الاتفاق الجديد للتعاون بين إيران والوكالة، التزم بقانون البرلمان الإيراني، وأن التعاون بينهما سيكون بموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي. ولفت إلى أن صيغة التعاون الجديدة، أخذت في الاعتبار جميع هواجس إيران، واعترفت رسمياً بحقوقها النووية، مشيراً إلى أن الاتفاق شمل كلّ مطالب بلاده.
من جهته، قال غروسي إن إيران والوكالة ستستأنفان تعاونهما «بطريقة محترمة وشاملة»، مضيفاً أن الاتفاق «يوفّر فهماً واضحاً لإجراءات التفتيش والإخطارات وتنفيذها، على نحو يتماشى تماماً مع الأحكام ذات الصلة من اتفاق الضمانات الشاملة». وأوضح غروسي، في حديثه أمام مجلس محافظي الوكالة، أمس، أن ذلك «شمل جميع المرافق والمنشآت في إيران، كما تناول الإبلاغ المطلوب عن جميع المرافق التي تعرّضت للهجوم، بما في ذلك المواد النووية الموجودة فيها».
وعلى رغم أهمية الاتفاق، فإن السؤال الرئيسي لا يزال عمّا إذا كان هذا التفاهم المؤقت سيتحوّل إلى عملية مستدامة أم لا؟ وثمّة مَن يقول: «بما أن الاتفاق يفتقد إلى التفاصيل القانونية المُلزِمة، فإن أيّ تغيير في المشهد السياسي، يمكن أن يجعله هشّاً، ولا سيما إذا استأنفت إسرائيل غاراتها على البنية التحتية النووية الإيرانية، أو في حال حصل تغيير سياسي في أميركا».
من ناحيتها، تسعى إيران، بهذا الاتفاق، إلى شراء الوقت وتأجيل فتح ملفّها في مجلس الأمن الدولي. وفي حال أبدت طهران، شفافية في التنفيذ الفعلي لمفاد الاتفاق، فسيكون بمقدورها المطالبة بمزيد من التنازلات السياسية والاقتصادية. لكن في حالة التأخير أو التقييد الشديد لعمليات الوصول، فإن مخاطر المواجهة الدبلوماسية في مجلس الحكّام، وحتى إحالة الملف إلى مجلس الأمن، ستأخذ طابعاً جدّياً.
والنقطة المهمّة الأخرى، هي الموازنة بين حاجة إيران لحفظ الردع النووي، وضرورة تعاونها مع الوكالة الدولية. فطهران، وبعد تجرية هجمات حزيران، باتت تؤمن بأن الشفافية الزائدة عن حدّها، يمكن أن تزيد من إمكانية التعرّض للضرر. ولهذا السبب، يُرجّح أن يكون التعاون انتقائيّاً ومرحليّاً، وهو ما يمكن أن يبقى مصدراً دائماً للتصعيد.
من هنا، ينبغي النظر إلى اتفاق القاهرة باعتباره محاولة لإدارة الأزمة، هدفها - قبل كلّ شيء - إرجاء المواجهة المباشرة بين إيران والأسرة الدولية. والاتفاق، لا يعني - على أيّ حال - العودة الكاملة إلى الاتفاق النووي، ولا تسوية جميع الخلافات الفنية والسياسية، لكنه يمثّل فرصة لالتقاط الأنفاس، وإفساح المجال أمام الحوار. وهكذا، إذا تمكّنت طهران والوكالة الدولية من بناء الثقة المتبادلة بينهما، سيمثّل اتفاق القاهرة توطئة للترتيبات الأكثر استدامة. وبغير ذلك، لا يمكن اعتباره إلّا محطّة استراحة قصيرة على طريق التصعيد.